فصل: تفسير الآيات (49- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)}.
المتقي مَنْ وقَّاه الله بفضله لا مَنْ اتَّقى بَتَكلُّفِه، بل إنه ما اتقى بتكلفه إلاَّ بعد أن وقَّاه الحقُّ- سبحانه- بفضله. هم اليومَ في جنات ولها دَرَجات بعضها أرفعُ من بعض، كما أنهم غداَ في جنَّات ولها درجات بعضها فوق بعض.
اليوم لقومٍ درجةُ حلاوة الخدمة وتوفيق الطاعة، ولقوم درجة البسط والراحة، ولآخرين درجة الرجاء والرغبة، ولآخرين درجة الأنْسِ والقربة، قد علم كلُّ أناسٍ مشربَهم ولزم كلُّ قومٍ مذهبَهم.
{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)}
معناه يقال لهم: {ادخلوها}، وأَجْمَلَ ذلك ولم يقل مَنْ الذي يقول لهم، ويرى قومٌ أن المَلكَ يقول لهم: أدخلوها.
ويقال إذا وافَوْا الجنة وقد قطعوا المسافة البعيدةَ، وقاسوا الأمورَ الشديدة َ، فَمِنْ حقِّهم أن يدخلوا الجنة، خاصةً وقد علموا أَنَّ الجنةَ مُبَاحةٌ لهم، ولعلهم لا يفقهون حتى يقال لهم.
ويقال يحتمل أنهم لا يدخلونها بقول المَلَكِ حتى يقول الحقُّ: أدخلوها، كما قالوا:
ولا أَلْبَسُ النُّعمى وغيرُك مُلْبِسٌ ** ولا أَقْبَلُ الدنيا وغيرك واهبُ

قوله: {بِسَلاَمٍ ءَامِنِينَ}: بمعنى السلامة، وهي الأمان، فيأمنون أنهم لا يخرجون منها.
ويقال كما لا يخرجون من الجنة لا يخرجون عما هم عليه من الحال؛ فالرؤية لهم وما هم فيه من الأحوال الوافية- مديدةٌ.
قوله جلّ ذكره: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}.
أَمَرَ الخليلَ عليه السلام ببناء الكعبة وتطهيرها فقال: {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ} [الحج: 26]، وأَمَرَ جبريلَ عليه السلام حتى غَسَلَ قلبَ المصطفى- صلىلله عليه وسلم- فَطَهَّرَهِ، وتولّى هو- سبحانه- بنفسه تطهيرَ قلوب العاصين، فقال: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الحجر: 47]، وذلك رفقًا بهم، فقد يصنع الله بالضعيف ما يتعجَّبُ منه القوي، ولو وكل تطهير قلوبهم إلى الملائكة لاشتهرت عيوبُهم، فتولَّى ذلك بنفسه رفقًا بهم.
ويقال قال: {مَا في صُدُورِهِم} ولم يقل ما في قلوبهم لأن القلوب في قبضته يقلبها، وفي الخبر: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» يريد بذلك قدرته، فاستعمل لفظ الإصبع لذلك توسعًا، وقيل بين إصبعين أي نعمتين.
قوله جلّ ذكره: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}.
قابل بعضُهم بعضًا بالوجه، وحفظ كلُّ واحدٍ عن صاحبه سِرَّه وقلبَه، فالنفوس متقابلة ولكنَّ القلوبَ غيرُ متقابلة؛ إذ لا يشتغل بعضهم ببعض، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ}.
{لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)}.
أي لا يلحقهم تعبٌ؛ لا بنفوسهم ولا بقلوبهم، وإذا أرادوا أمرًا لا يحتاجون إلى أن ينتقلوا من مكانٍ إلى مكان، ولا تحار أبصارهم، ولا يلحقهم دَهَشٌ، ولا يتغير عليهم حالٌ عما هم عليه من الأمر، ولا تشكل عليه صفة من صفات الحق.
{وَمَا هُم مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} أي لا يلحقهم ذلُّ الإخراج بل هم بدوام الوصال. اهـ.

.تفسير الآيات (49- 56):

قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان المفهوم من هذا السياق أن الناجي إنما هو المتقي المخلص الذي ليس للشيطان عليه سلطان، وكان مفهوم المخلص من لا شائبة فيه، وكان الإنسان محل النقصان، وكان وقوعه في النقص منافيًا للوفاء بحق التقوى والإخلاص، وكان ربما أيأسه ذلك من الإسعاد، فأوجب له التمادي في البعاد، قال سبحانه- جوابًا لمن كأنه قال: فما حال من لم يقم بحق التقوى؟ {نبىء عبادي} أي أخبرهم إخبارًا جليلًا {أني أنا} أي وحدي {الغفور الرحيم} أي الذي أحاط- محوه للذنوب وإكرامه لمن يريد- بجميع ما يريد، لا اعتراض لأحد عليه.
ولما كان ذلك ربما سببًا للاغترار الموجب للإصرار، قال تعالى: {وأن عذابي هو} أي وحده {العذاب الأليم} أي الكامل في الإيلام، فعلم أن الأول لمن استغفر، والثاني لمت أصر، وعرف من ذلك أن المتقين إنما دخلوا الجنة بعفوه، والغاوين إنما عذبوا بعدله، فهو لف ونشر مشوش- على ما هو الأفصح.
ولما أتم سبحانه شرح قوله: {وليعلموا أنما هو إله واحد} وما تبعه من الدلالة على البعث، شرع في شرح {وليذكر أولوا الألباب} بقصة الخليل عليه السلام وما بعدها مع الوفاء بذكر المعاد، تارة تلويحًا وتارة تصريحًا، والرجز عن الاجتراء على طلب الإتيان بالملائكة عليهم السلام، والالتفات إلى قوله: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل واسحاق} [إبراهيم: 39]. في أسلوب شارح لما تعقبه هذه القصة، فإن حصول القنوط سبب لآية المغفرة، والإخبار بعذاب الأمم تمثيل لآية العذاب ليزدجر المخاطبون، وأفراد لهم ذكر من هو أقرب إلى بلادهم ممن يعرفونه من المعذبين لأنه أوقع في النفس، فقال تعالى: {ونبئهم} أي خبرهم إخبارًا عظيمًا {عن ضيف إبراهيم} والضيف هو المنضم إلى غيره لطلب القرى، فهؤلاء سموا بهذا الاسم لأنهم على صورة الضيف، فهو من دلالة التضمن {إذ دخلوا عليه} أي إبراهيم عليه السلام {فقالوا} أي عقب الدخول {سلامًا}.
ولما كان طلبهم في هذه الصورة للملائكة على وجه أوكد مما في سورة هود عليه السلام، أشار لهم إلى ما في رؤية الملائكة من الخوف ولو كانوا مبشرين وفي أحسن صورة من صور البشر- بقوله: {قال} بلسان الحال أو القال: {إنا} أي أنا ومن عندي {منكم وجلون} وأسقط ذكر جوابه بالسلام، ولا يقدح ذلك فيما في سورة هود وغيرها من ذكره، فإن إذ ظرف زمان بمعنى حين، والحين قد يكون واسعًا، فيذكر ما فيه تارة جميعه على ترتيبه، وأخرى على غير ذلك، وتارة بعضه مع إسقاط البعض مع صدق جميع وجوه الإخبار لكونه كان مشتملًا على الجميع، وتكون هذه التصرفات على هذه الوجوه لمعانٍ يستخرجها من أراد الله.
ولما أخبر أنه أخبرهم بوجله منهم، تشوف السامع إلى جوابهم فقال: {قالوا} مريدين أمنه: {لا توجل} والوجل: اضطراب النفس لتوقع ما يكره؛ ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكدين لقلع ما في نفسه من الوجل المنافي للبشرى {إنا نبشرك بغلام} أي ولد ذكر هو في غاية القوة وليس هو كأولاد الشيوخ ضعيفًا.
ولما كان خوفه لخفاء أمرهم عليه، كان للوصف بالعلم في هذا السياق مزيد مزية فقالوا: {عليم} فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل: {قال} مظهرًا للتعجب إرادة تحقيق الأمر وتأكيده: {أبشرتموني} أي بذلك {على أن مسني الكبر} أي الذي لا حركة معه يأتي منها ولد، أم على أن أعود شابًا؟ ولذلك سبب عنه قوله: {فبم تبشرون} بينوا لي ذلك بيانًا شافيًا {قالوا بشرناك بالحق} أي الأمر الثابت المقطوع به الواقع لا محالة الذي يطابق خبرنا {فلا تكن} أي بسبب تبشيرنا لك بالحق {من القانطين} أي الآئسين الذين ركنوا إلى يأسهم، لقولك نحو أقوالهم.
فلما ألهبوه بهذا النهي {قال} منكرًا لأن يكون من القانطين: {ومن يقنط} أي ييأس هذا اليأس {من رحمة ربه} أي الذي لم يزل إحسانه دارًّا عليه {إلا الضالون} أي المخطئون طريق الاعتقاد الصحيح في ربهم من تمام القدرة وأنه لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة، وهذا إشارة إلى أنه ما كان قانطًا، وإنما كان مريدًا لتحقيق الخبر، وفي هذا تلويح إلى أمر المعاد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} في الآية مسألتان:
المسألة الأولى:
أثبتت الهمزة الساكنة في {نبىء} صورة، وما أثبتت في قوله: {دِفْء} {وجزء} لأن ما قبلها ساكن فهي تحذف كثيرًا وتلقى حركتها على الساكن قبلها، فـ: {نبىء} في الخط على تحقيق الهمزة، وليس قبل همزة {نبىء} ساكن فاجرؤها على قياس الأصل.
المسألة الثانية:
اعلم أن عباد الله قسمان: منهم من يكون متقيًا، ومنهم من لا يكون كذلك، فلما ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة، ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية فقال: {نَبّىء عِبَادِى}.
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، فههنا وصفهم بكونهم عبادًا له، ثم أثبت عقيب ذكر هذا الوصف الحكم بكونه غفورًا رحيمًا، فهذا يدل على أن كل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كونه الله غفورًا رحيمًا ومن أنكر ذلك كان مستوجبًا للعقاب الأليم.
وفي الآية لطائف: أحدها: أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: {عِبَادِي} وهذا تشريف عظيم.
ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج لم يزد على قوله: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].
وثانيها: أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة: أولها: قوله: {أَنّى}.
وثانيها: قوله: {أَنَاْ}.
وثالثها: ادخال حرف الألف واللام على قوله: {الغفور الرحيم} ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب وما وصف نفسه بذلك بل قال: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم}.
وثالثها: أنه أمر رسوله أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.
ورابعها: أنه لما قال: {نَبّىء عِبَادِي} كان معناه نبىء كل من كان معترفًا بعبوديتي، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع، فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى.
وعن قتادة قال: بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى ما تورع من حرام، ولو علم قدر عقابه لبخع نفسه» أي قتلها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بنفر من أصحابه، وهم يضحكون فقال: «أتضحكون والنار بين أيديكم» فنزل قوله: {نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم}، والله أعلم.
{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير أمر النبوة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد، ثم ذكر عقيبه أحوال القيامة وصفة الأشقياء والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغبًا في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء، ومحذرًا عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء، فبدأ أولًا بقصة إبراهيم عليه السلام، والضمير في قوله: {وَنَبّئْهُمْ} راجع إلى قوله: {عِبَادِى} والتقدير: ونبىء عبادي عن ضيف إبراهيم، يقال: أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا أخبرتهم وذكر تعالى في الآية أن ضيف إبراهيم عليه السلام بشروه بالولد بعد الكبر.
وبانجاء المؤمنين من قوم لوط من العذاب وأخبروه أيضًا بأنه تعالى سيعذب الكفار من قوم لوط بعذاب الاستئصال، وكل ذلك يقوي ما ذكره من أنه غفور رحيم للمؤمنين، وأن عذابه عذاب أليم في حق الكفار.
المسألة الثانية:
الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف إذا أتى إنسانًا لطلب القرى، ثم سمى به، ولذلك وحد في اللفظ وهم جماعة.
فإن قيل: كيف سماهم ضيفًا مع امتناعهم عن الأكل؟
قلنا: لما ظن إبراهيم أنهم إنما دخلوا عليه لطلب الضيافة جاز تسميتهم بذلك.
وقيل أيضًا: إن من يدخل دار الإنسان ويلتجىء إليه يسمى ضيفًا وإن لم يأكل، وقوله تعالى: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا} أي نسلم عليك سلامًا أو سلمت سلامًا، فقال إبراهيم: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي خائفون، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل.
وقيل: لأنهم دخلوا عليه بغير إذن وبغير وقت وقرأ الحسن: {لاَ تَوْجَلْ} بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه.
وقرئ {لا تأجل} و{لا تواجل} من واجله بمعنى أو جله، وهذه القصة قد مر ذكرها بالاستقصاء في سورة هود.
وقوله: {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام عَلِيمٍ} فيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ حمزة: {إِنَّا نُبَشّرُكَ} بفتح النون، وتخفيف الباء، والباقون: {نُبَشّرُكَ} بالتشديد.
البحث الثاني: قوله: {إنا نُبَشّرُكَ} استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، والمعنى: أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل.
البحث الثالث: قوله: {إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام عَلِيمٍ} بشروه بأمرين: أحدهما: أن الولد ذكر والآخر أنه يصير عليمًا، واختلفوا في تفسير العليم، فقيل: بشروه بنبوته بعده.
وقيل: بشروه بأنه عليم بالدين.
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون}، فمعنى: {على} هاهنا للحال أي حالة الكبر، وقوله: {فَبِمَ تُبَشّرُونَ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
لفظ ما هاهنا استفهام بمعنى التعجب كأنه قال: بأي أعجوبة تبشروني؟
فإن قيل: في الآية إشكالان: الأول: أنه كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر وإنكار قدرة الله تعالى في هذا الموضع كفر.
الثاني: كيف قال: {فَبِمَ تُبَشّرُونَ} مع أنهم قد بينوا ما بشروه به، وما فائدة هذا الإستفهام.
قال القاضي: أحسن ما قيل في الجواب عن ذلك أنه أراد أن يعرف أنه تعالى يعطيه الولد مع أنه يبقيه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شابًا، ثم يعطيه الولد، والسبب في هذا الاستفهام أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامة وإنما يحصل في حال الشباب.
فإن قيل: فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم فلم قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين.
قلنا: إنهم بينوا أن الله تعالى بشره بالولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة وقوله: فلا تكن من القانطين.
لا يدل على أنه كان كذلك، بدليل أنه صرح في جوابهم بما يدل على أنه ليس كذلك فقال: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون} وفيه جواب آخر، وهو أن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء وفاته الوقت الذي يغلب على ظنه حصول ذلك المراد فيه، فإذا بشر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه وسروره ويصير ذلك الفرح القوي كالمدهش له والمزيل لقوة فهمه وذكائه فلعله يتكلم بكلمات مضطربة في ذلك الفرح في ذلك الوقت، وقيل أيضًا: إنه يستطيب تلك البشارة فربما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرة أخرى ومرتين وأكثر طلبًا للالتذاذ بسماع تلك البشارة، وطلبًا لزيادة الطمأنينة والوثوق مثل قوله: {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} [البقرة: 260]، وقيل أيضًا: استفهم أبأمر الله تبشرون أم من عند أنفسكم واجتهادكم؟
المسألة الثانية:
قرأ نافع: {تُبَشّرُونَ} بكسر النون خفيفة في كل القرآن، وقرأ ابن كثير بكسر النون وتشديدها.
والباقون بفتح النون خفيفة، أما الكسر والتشديد فتقديره تبشرونني أدغمت نون الجمع في نون الإضافة، وأما الكسر والتخفيف فعلى حذف نون الجمع استثقالًا لاجتماع المثلين وطلبًا للتخفيف قال أبو حاتم: حذف نافع الياء مع النون.
قال: وإسقاط الحرفين لا يجوز، وأجيب عنه: بأنه أسقط حرفًا واحدًا وهي النون التي هي علامة للرفع.
وعلى أن حذف الحرفين جائز قال تعالى في موضع {وَلاَ تَكُ} وفي موضع: {وَلاَ تَكُن} فأما فتح النون فعلى غير الإضافة والنون علامة الرفع وهي مفتوحة أبدًا، وقوله: {بشرناك بالحق} قال ابن عباس: يريد بما قضاه الله تعالى والمعنى: أن الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق عليه السلام.
ويخرج من صلب إسحق مثل ما أخرج من صلب آدم فإنه تعالى بشر بأنه يخرج من صلب إسحق أكثر الأنبياء فقوله: {بالحق} إشارة إلى هذا المعنى وقوله: {فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين} نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط وقد ذكرنا كثيرًا أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهى فاعلًا للمنهى عنه كما في قوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1]. ثم حكى تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
هذا الكلام حق، لأن القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور: أحدها: أن يجهل كونه تعالى قادرًا عليه.
وثانيها؛ أن يجهل كونه تعالى عالمًا باحتياج ذلك العبد إليه.
وثالثها: أن يجهل كونه تعالى منزهًا عن البخل والحاجة والجهل فكل هذه الأمور سبب للضلال، فلهذا المعنى قال: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون}.
المسألة الثانية:
قرأ أبو عمرو والكسائي: {يقنط} بكسر النون ولا تقنطوا كذلك، والباقون بفتح النون وهما لغتان: قنط يقنط، نحو ضرب يضرب، وقنط يقنط نحو علم يعلم، وحكى أبو عبيدة: قنط يقنط بضم النون، قال أبو علي الفارسي: قنط يقنط بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات يدل على ذلك اجتماعهم في قوله: {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} [الشورى: 28]، وحكاية أبي عبيدة تدل أيضًا على أن قنط بفتح النون أكثر، لأن المضارع من فعل يجيء على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق ويفسق ولا يجيء مضارع فعل على يفعل، والله أعلم. اهـ.